الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية لأحاديث الهداية **
عده ابن كمال باشا، من أصحاب الترجيح، وبعضهم، من أصحاب التخريج، وقيل: هو من المجتهدين في المذهب، ومال إليه الفاضل اللكنوي، في تعليقاته على "الفوائد البهية"، توفي رحمه اللّه، سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة - 593 - هـ. صنف كتابًا، سماه "بداية المبتدى" جمع فيه كتابي: القدوري. والجامع الصغير، للإمام محمد بن الحسن الشيباني، وزاد عليهما مسائل عند الضرورة، ثم شرحه بكتاب سماه "كفاية المنهى"، في ثمانين مجلدًا، ثم اختصره في "كتاب، سماه الهداية". صنف "الهداية" في ثلاث عشرة سنة، وبقي صائمًا في عهد تأليفه لهذا الكتاب، لم يطلع على صومه أحد. قال إمام العصر، المحدث، الشيخ "محمد أنور الكشميري الديوبندي" رحمه اللّه: ليس في أسفار المذاهب الأربعة كتاب بمثابة كتاب "الهداية" في تلخيص كلام القوم، وحسن تعبيره الرائق، والجمع للمهمات في تفقه نفس، بكلمات كلها درر وغرر. وقال: وقد صدق من قال من بعض أفاضل الشيعة: إن كتب الأدب العربي في المسلمين ثلاثة: التنزيل العزيز. وصحيح البخاري. وكتاب "الهداية"، اهـ. وقال: براعة الإنشاء، وفضل الأدب يظهر في إفصاح التعبير الأدبي في غوامض الأبحاث، ومشكلات المسائل، ليست المزية في فصاحة عبارات الحدائق والازهار، وذكر النسائم، وخرير الأنهار، فإنه باب طَرَقه كل شاعر وكاتب. وقال: لا يدرك شأو صاحب "الهداية" في فقهه ألف فقيه، مثل صاحب "الدر المختار"، فإن صاحب "الهداية" فقيه النفس، علمه علم الصدر. وعلم صاحب "الدر المختار" علم الصحف والأسفار، وان البون بينهما لبعيد. وقال: سألني بعض الفضلاء، هل تقدر على أن تؤلف كتابًا، مثل - فتح القدير، وهو "شرح الهادية" - في الدقة والتحرير؟ قلت: نعم، قال: ومثل "الهداية"؟ قلت: كلا، ولو عدة أسطر. قال الراقم: وناهيك بهذه الكلمات، من هذا الأستاذ الإمام، إمام العصر. في منزلة هذا الكتاب الجليل، وإنها ليست مجازفة وإطراء، بل خرجت من فكرة دقيقة صائبة، غاصت في دَرَك الكتاب بمكابدة العناء والتعب، فقدَّم درر تحقيقه للقوم التي أخرجها عن دَرَكه بعد برهة من الدهر. قد ذكر صاحب كشف الظنون من شروح الهداية، والتعليقات عليها، والتخاريج لأحاديثها، قدرًا كبيرًا يجاوز ستين شرحًا، ولو أخذنا في التحقيق وضم الحواشي والشروح إليه بعد عهد صاحب الكشف، وإلحاق شروحها في اللغة الفارسية، واللغة الأردية، لزدنا على القدر المذكور قدرًا غير يسير. ولاستقصاء البحث موضع غير هذا. وأول شروحها "النهاية" - لحسام الدين الصغناتي، تلميذ صاحب "الهداية"، وقيل: غيرها، ومن شروحه "الفوائد" - لحميد الدين الضرير. و"معراج الدراية" - لقوام الدِّين الكاكي. و"الكفاية في دراية الهداية" لعمر بن صدر الشريعة. و"غاية البيان، ونادرة الأفران" - للإمام قوام الدين أمير كاتب الإتقاني، المتوفى سنة 758 - هـ، صاحب الشامل، شرح أصول البزودي. و"البناية" - للشيخ بدر الدين الحافظ العيني، شارح صحيح البخاري، المتوفى سنة 855 - هـ. و"العناية" - للشيخ أكمل الدين البابرتي. و"الغاية" - لأبي العباس السروجي، الإمام المحدث، وتكملته عن الشيخ المحدث، سعد الدين الديري. وتصدى لتخريج أحاديثها، الحافظ عبد القادر القرشي، المتوفى سنة 775 - هـ، وسماه: "العناية في تخريج أحاديث الهداية". والحافظ البارع، علاء الدِّين علي بن عثمان المارديني، المتوفى سنة 750 - هـ، صاحب "الجوهر النقي" في الرد على البيهقي، وهو شيخ الحافظ الزيلعي، وسماه "الكفاية في معرفة أحاديث الهداية". والحافظ جمال الدين الزيلعي، سماه "نصب الراية - لأحاديث الهداية"، وقد فرغنا من ترجمته ومزاياه، وذَّيل تخريجه، الحافظ الشيخ "قاسم بن قطلوبغا الحنفي"، وسماه: "منية الألمعي"، وتقدم ذكره، وللشيخ مصلح الدين، مصطفى السروري تعليق على شرح ابن الشحنة في "التنبيه على أحاديث الهداية"، وللحافظ ابن حجر "الدراية - في تلخيص نصب الراية"، وقد تقدم في - ترجمة الزيلعي - . وطبع من شروحه "فتح القدير" - للشيخ ابن الهمام السيواسي بمصر، مع تكملته، وهو من أمتن الشروح، وأبرعها، وطبع بالهند أيضًا. و"العناية" - للشيخ البابرتي. و"الكفاية" وهما من أحسن شروحها فقهًا، وطبعت هذه الثلاثة بمصر مجموعة. وطبع "البناية" - للعيني في الهند، طبعًا سقيمًا، وأصبح اليوم نادرًا جدًا، وهو من أنفع الشروح، حلًا لغوامض الكتاب، ثم جمعا بين أبحاث الفقه، وأبحاث الحديث، وهو يحتاج إلى إعادة الطبع، مع عناية بالتصحيح بالغة، ومما نحن في اشتياق وحاجة شديدة إلى طبعه من الشروح، فيما أرى - "غاية البيان" - للاتقاني. و"معراج الدراية" - لقوام الدِّين الكاكي" و"الغاية" - للشيخ أبي العباس السروجي، حافظ الحديث. قال الراقم: لم يخدم كتاب في الفقه من المذاهب الاربعة، مثل كتاب "الهداية"، ولم يتفق على شرح كتاب في الفقه، من الفقهاء، والمحدثين، والحفاظ المتقنين، مثل ما اتفقوا عل كتاب الهداية، وناهيك بهذا الإقبال العظيم، وتلقي القوم إياه بالقبول، فمن شراحه من الفقهاء المحدثين، أعلام العصر، وأعيان القوم، مثل الحافظ العيني. وقوام الدِّين الاتقاني. وقوام الدِّين الكاكي، وابن الهمام السيواسي. ومن مخرجيه من جهابذة الحفاظ، مثل المارديني، والزيلعي، والقرشي، وابن حجر. والقاسم بن قطلوبغا الحنفي، فكفى لكتابه فضلًا وشرفًا، أمثال هولاء الأعيان في شارحيه، ومخرجيه، فهل هذه المزية تساجَل أو تجارَى؟!: وما كل مخضوب البنان بثينة * ولا كل مصقول الحديد يمان. وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب، واللّه الهادي إلى الصواب. وصلى اللّه تعالى على صاحب النفس القدسية، والأنفاس الزكية، صفوة البرية، محمد وآله، وصحبه، وبارك، وسلم. محمد يوسف بن السيد محمد زكريا بن السيد مزمل شاه البَنُوري، نزيل "القاهرة"، عفا اللّه عنه، وعافاه، وجعل آخرته خيرًا من أولاه، عضو "المجلس العلمي"، والمدرس بالجامعة الإسلامية - دابهيل سورت - الهند يوم الاثنين 21، من الربيع الآخر، سنة 1357 هـ. [تحتوي على مزية تخريج الحافظ الزيلعي على تخاريج سائر حفاظ الحديث، وكلمة في القياس والاستحسان، وبيان حقيقة الرأي في نظر السلف، وذكر مزية الكوفة على سائر البلاد، في عهد الصحابة، وبعده، قرانًا، وسنة. فقهًا، وتحديثًا، وعربية، وغيرها، وذكر الحفاظ، والمحدثين من الحنفية في العصور المختلفة، وكلمة في الجرح والتعديل. وهذه جواهر ودرر من الحقائق الناصعة التاريخية، التي لا مجال للكلام فيها، عند البصير المنصف، وغرر تقول من الاكابر ما لا يتلقاه الا أمثالهم، جاد بها قلم المحقق النظار، المحنك المتبحر، الأستاذ الكبير الشيخ "محمد زاهد الكوثري" في عجلة المستوفز بالتماس "المجلس العلمي" من فضيلته، طالت حياته في عافية. "البنوري"] "نصب الراية" وكلمة عن فقه أهل العراق بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه الذي أعلى منازل الفقهاء، إعلاء يوازن ما لهم من الهمم القعساء، في خدمة الحنيفية السمحة البيضاء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء، وسند الأتقياء، ومخرج الأمة من الظلمات إلى النور والضياء، وعلى آله وصحبه، السادة النجباء، والقادة الأصفياء، شموس الهداية، وبدور الاهتداء، الناضري الوجوه، بتبليغ ما بلغوه من أدلة الشريعة الغراء. وبعد: فإن كتاب نصب الراية - لتخريج أحاديث الهداية" للإمام الحافظ الفقيه الناقد الشيخ "عبد اللّه بن يوسف الزيلعي" - أعلى اللّه سبحانه منزلته في الجنة - كتاب لا نظير له في استقصاء أحاديث الأحكام، حيث كان مؤلفه لا يفتر ساعة عن البحث، ولا يعوقه عن التنقيب عائق، ولا يحول دون فحصه تواكل، ولا تكاسل، ولا يزهده في الأخذ عن أقرانه، وعمن هو دونه كبَر النفس، وسعته في العلم، بل طريقته الدأب، ليل نهار، على نشدان طلبته، أينما وجد ضالته، وهذا الإخلاص العظيم، وهذا البحث البالغ، جعلا لكتابه من المنزلة في قلوب الحفاظ، مالا تساميه منزلة كتاب من كتب التخريج، والحق يقال: إنه لم يدع مطمعًا لباحث وراء بحثه وتنقيبه، بل استوفى في الأبواب ذكر ما يمكن لطوائف الفقهاء أن يتمسكوا به على اختلاف مذاهبهم، من أحاديث، قلما يهتدي إلى جميع مصادرها أهل طبقته، ومن بعده من محدثي الطوائف، إلا من أجهد نفسه إجهاده، وسعى سعيه لوجود كثير منها في غير مظانها، بل قلَّ من ينصف إنصافه، فيدون أدلة الخصوم تدوينه، غير مقتصر على أحاديث طائفة دون طائفة، مع بيان ما لها وما عليها، بغاية النصفة، بخلاف كثير ممن ألفوا في أحاديث الأحكام في المذاهب، فإنك تراهم يغلب عليهم التقصير في البحث، أو السير وراء أهواء، والتقصير في البحث، يظهر المسألة القوية الحجة بمظهر أنها لا تدل عليها حجة، والسير وراء هوى، تعصب يأباه أهل الدين، وأخطر ما يغشى على بصيرة العالم عند النظر في الادلة، هو التعصب المذهبي، فإنه يلبس الضعيف لباس القوي، والقوي لباس الضعيف، ويجعل الناهض من الحجة داحضًا، وبالعكس، وليس ذلك شأن من يخاف اللّه في أمر دينه، ويتهيب ذلك اليوم الرهيب الذي يحاسب فيه كل امرئ على ما قدمت يداه، فإذا وجد المتفقه من هو واسع العلم، غوَّاص لا يتغلب عليه الهوى، بين حفاظ الحديث، فليعض عليه بالنواجذ، فإن ذلك، الكبريت الأحمر بينهم، والحافظ الزيلعي هذا، جامع لتلك الأوصاف حقًا، ولذلك أصبحت أصحاب التخاريج بعده عالة عليه، فدونك كتب: البدر الزركشي. وابن الملقن. وابن حجر. وغيرهم، من الذين يظن بهم أنهم يحلقون في سماء الإعجاب، ويناطحون السحاب، وقارنها بكتب الزيلعي، حتى تتيقن صدق ما قلنا، بل إذا فعلت ذلك ربما تزيد، وتقول: إن سَدى تلك الكتب ولحمتها، كتب الزيلعي، إلا في التعصب المذهبي، وكتاب الزيلعي هذا يجد فيه الحنفي صفوة ما استدل به أئمة المذاهب من أحاديث الأحكام، ويلقى المالكي فيه نقاوة ما خرجه ابن عبد البر في "التمهيد" و "الاستذكار" وخلاصة ما بسطه عبد الحق في كتبه، في أحاديث الأحكام، والشافعي يرى فيه غربلة ما خرجه البيهقي في "السنن". و"المعرفة". وغيرهما، وتمحيص ما ذكره النووي في "المجموع". و"شرح مسلم" واستعراض ما يبينه ابن دقيق العيد في "الإِلمام". و"الإمام". و"شرح العمدة"، وكذلك الحنبلي يلاقي فيه وجوه النقد في "كتاب التحقيق" - لابن الجوزي. و"تنقيح التحقيق" - لابن عبد الهادي، وغير ذلك من الكتب المؤلفة في أحاديث الأحكام، بل يجد الباحث فيه سوى ما في الصحاح، والسنن، والمسانيد، والآثار، والمعاجم، من أدلة الأحكام أحاديث في الأبواب، من مصنف ابن أبي شيبة - أهم كتاب في نظر الفقيه - ، ومصنف عبد الرزاق، ونحوهما، مما ليس بمتناول يد كل باحث اليوم، مع استيفاء الكلام في كل حديث، من أقوال أئمة الجرح والتعديل، ومن كتب العلل المعروفة، وهذا ما جعل لهذا الكتاب ميزة عظمى بين كتب التخاريج. ولا أريد بهذا، الثناء على كتابه تثبيط العزائم، وتخدير الهمم، ولا إنكار أنه لا نهاية لما يفيض اللّه سبحانه على أهل العزيمة الصادقة من خبايا العلوم، ولا نفي أن في كتب من بعده بعض فوائد، يشكر مؤلفوها عليها، ويزداد استقاء أمثالها من ينابيعها الصافية، عند مضاعفة السعي، وصدق العزيمة، وإنما قلت ما قلت، إعطاءٍ لكل ذي حق حقه، واجلالًا للعلم واستنهاضًا للهمم، نحو محاولة الاستدراك، على مثل هذا العالم الجليل. وهذا حافظ واحد من حفاظ الحنفية، قام بمثل هذا العمل العظيم الذي وقع موقع الإِعجاب الكلي بين طوائف الفقهاء كلهم، في عصره، وبعد عصره، فمن قلب صحائف هذا الكتاب، ودرس ما في الأبواب من الأحاديث، تيقن أن الحنفية في غاية التمسك بالأحاديث، والآثار في الأبواب كلها، لكن لا تخلو البسيطة من متعنت يتقوَّل فيهم، إما جهلًا، أو عصبية جاهلية، فمرة يتكلمون في أخذهم بالرأي، عند فقدان النص، مع أنه لا فقه بدون رأي، ومرة يرمونهم بقلة الحديث، وقد امتلأت الأمصار بأحاديثهم، وأخرى يقولون: إنهم يستحسنون، ومن استحسن فقد شرَّع، وأين يكون موقع هذا الكلام من الصدق؟! بعد الاطلاع على كلامهم في الاستحسان، وكيف يستطيع القائل بالقياس رد الاستحسان؟ والشرع للّه وحده، إنما الرسول صلوات اللّه عليه - مبِّلغه، وقصارى ما يعمل الفقيه فَهْم النصوص فقط، فمن جعل للفقيه حظًا من التشريع، لم يفهم الفقه والشرع، بل ضل السبيل، وجعل شرع اللّه من الأوضاع البشرية، وحاش للّه أن يجعل للبشر دخلًا في شرعه ووحيه. هذا، وقد رأيت تفنيد تلك النقولات، بسرد مقدمات في الرأي والاجتهاد، وفي الاستحسان الذي يقول به الحنفية، وفي شروط قبول الأخيار عندهم، وفي منزلة الكوفة من علوم القرآن، والحديث، والعلوم العربية، والفقه، وأصوله، وكون الكوفة ينبوع الفقه، المُشرق، من بلاد المشرق، المنتشر في قارات الأرض كلها، وميزة مذهب أهل العراق على سائر المذاهب، ومبلغ اتساعهم في الحفظ، وكثرة الحفاظ بينهم من أقدم العصور الاسلامية إلى عصرنا هذا، زيادة على ما لهم من الفهم الدقيق، والغوص في المعاني، وقد اعترف لهم بذلك كل الخصوم، ونظرة عجلى في كتب الجرح والتعديل، واللّه سبحانه حسبي، ونعم الوكيل. - وردت في الرأي، آثار تذمه، وآثار تمدحه، والمذموم هو الرأي عن هوى، والممدوح هو استنباط حكم النازلة من النص، على طريقة فقهاء الصحابة، والتابعين،وتابعيهم، برد النظير إلى نظيره، في الكتاب، والسنة. وقد خرَّج الخطيب غالب تلك الآثار في "الفقيه والمتفقه"، وكذا ابن عبد البر، مع بيان موارد تلك الآثار. والقول المحتم في ذلك: إن فقهاء الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، جروا على القول بالرأي بالمعنى الذي سبق "أعني استنباط حكم النازلة من النص"، وهذا من الإجماعات التي لا سبيل إلى إنكارها، وقد قال الإمام أبو بكر الرازي في "الفصول"، بعد أن سرد ما كان عليه فقهاء الصحابة، والتابعين من القول بالرأي: "إلى أن نشأ قوم ذو جهل بالفقه وأصوله، لا معرفة لهم بطريقة السلف، ولا توقي للإقدام على الجهالة، واتباع الأهواء البشعة التي خالفوا بها الصحابة، ومَن بعدهم من أخلافهم، فكان أول من نفى القياس والاجتهاد في أحكام الحوادث، إبراهيم النظَّام، وطعن على الصحابة من أجل قولهم بالقياس، ونسبهم إلى ما لا يليق بهم، والى ضد ما وصفهم اللّه به، وأثنى به عليهم - بتهوره وقلة علمه بهذا الشان - ، ثم تبعه على هذا القول نفر من المتكلمين البغداديين، إلا أنهم لم يطعنوا على السلف كطعنه، ولم يعيبوهم، لكنهم ارتكبوا من المكابرة، وجحد الضرورة امرًا بشعًا، فرارًا من الطعن على السلف، في قولهم بالاجتهاد والقياس، وذلك أنهم زعموا أن قول الصحابة في الحوادث كان على وجه التوسط والصلح بين الخصوم لا على وجه قطع الحكم، وإبرام القول، فكأنهم قد حسنوا مذهبهم بمثل هذه الجهالة، وتخلصوا من الشناعة التي لحقت النظَّام بتخطئته السلف. ثم تبعهم رجل من الحشو جهول، يريد - داود بن علي - لم يدر ما قال هؤلاء، ولا ما قال هؤلاء، وأخذ طرفًا من كلام النظَّام، وطرفًا من كلام متكلمي بغداد، من نفاة القياس، فاحتج به في نفي القياس والاجتهاد، مع جهله بما تكلم به الفريقان، من مثبتي القياس، ومبطليه، وقد كان مع ذلك ينفي حجج العقول، ويزعم أن العقل لا حظ له في إدراك شيء من علوم الدِّين، فأنزل نفسه منزلة البهيمة بل هو أضل منها، اهـ"، وأبو بكر الرازي أطال النفس جدًا في إقامة الحجة على حجية الرأي والقياس، بحيث لا يدع أي مجال للتشغيب ضد حجيته، فالرأي بهذا المعنى، وصف مادح يوصف به كل فقيه، ينبئ عن دقة الفهم، وكمال الغوص، ولذلك تجد ابن قتيبة يذكر في "كتاب المعارف" الفقهاء بعنوان أصحاب الرأي، ويَعدُّ فيهم الأوزاعي. وسفيان الثوري. ومالك بن أنس رضي اللّه عنهم، وكذلك تجد الحافظ محمد بن الحارث الخشني، يذكر أصحاب مالك في "قضاة قرطبة" باسم أصحاب الرأي. وهكذا يفعل أيضًا الحافظ أبو الوليد بن الفرضي في "تاريخ علماء الأندلس"، وكذلك الحافظ أبو الوليد الباجي، يقول في شرح حديث الداء العضال من "الموطأ" في صدد الرد على ما يرويه النقلة عن مالك، في تفسير الداء العضال: ولم يرو مثل ذلك عن مالك أحد من أهل الرأي من أصحابه "يعني من أهل الفقه، من أصحاب مالك" إلى غير ذلك، مما لا حاجة إلى استقصائه هنا. وبهذا يتبين أن تنزيل الآثار الواردة في ذم "الرأي عن هوى" في فقه الفقهاء، وفي ردهم النوازل التي لا تنتهي إلى انتهاء تاريخ البشر، إلى المنصوص في كتاب اللّه، وسنة رسوله، إنما هو هوى بشع، تنبذه حجج الشرع، وأما تخصيص الحنفية بهذا الإسم، فلا يصح إلا بمعنى البراعة البالغة في الاستنباط، فالفقه حيثما كان يصحبه الرأي، سواء كان في المدينة أو في العراق، وطوائف الفقهاء كلهم إنما يختلفون في شروط الاجتهاد، بما لاح لهم من الدليل، وهم متفقون في الأخذ بالكتاب، والسنة، والإِجماع، والقياس، ولا يقتصرون على واحد منها. وأما أهل الحديث فهم الرواة النقلة، وهم الصيادلة، كما أن الفقهاء هم الاطباء، كما قال الأعمش، فإذا اجترأ على الإفتاء أحد الرواة الذين لم يتفقهوا، يقع في مهزلة، كما نص الرامهرمزي في "الفاصل"، وابن الجوزي في "التلبيس"، و"أخبار الحمقى"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"، على نماذج من ذلك، فذكر مدرسة للحديث هنا، مما لا معنى له [تنبيه على رد ما قاله بعض أهل العصر في بعض كتبه. "البنوري".]، قال سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي في شرح "مختصر الروضة" - في أصول الحنابلة: "واعلم أن أصحاب الرأي بحسب الإِضافة، هم كل من تصرف في الأحكام بالرأي، فيتناول جميع علماء الإسلام، لأن كل واحد من المجتهدين لا يستغني في اجتهاده عن نظر ورأي، ولو بتحقيق المناط، وتنقيحه الذي لا نزاع في صحته، وإما بحسب العلمية فهو في عرف السلف "من الرواة بعد محنة خلق القرآن"، علم على أهل العراق، وهم أهل الكوفة، أبو حنيفة، ومن تابعه منهم وبالغ بعضهم في الشنيع عليه واني، واللّه لا أرى إلا عصمته مما قالوه، وتنزيهه عما إليه نسبوه، وجملة القول فيه: إنه قطعًا، لم يخالف السنة عنادًا، وإنما خالف فيما خالف منها اجتهادًا، بحجج واضحة، ودلائل صالحة لائحة، وحججه بين أيدي الناس موجودة، وقلَّ أن ينتصف منها مخالفوه، وله بتقدير الخطأ أجر، وبتقدير الإصابة أجران، والطاعنون عليه إما حساد، أو جاهلون بمواقع الاجتهاد، وآخر ما صح عن الإمام أحمد رضي اللّه عنه إحسان القول فيه، والثناء عليه، ذكره أبو الورد من أصحابنا في "كتاب أصول الدين"، اهـ.وقال الشهاب بن حجر المكي الشافعي في "خيرات الحسان": ص.3 :" يتعين عليك أن لا تفهم من أقوال العلماء - أي المتأخرين من أهل مذهبه - عن أبي حنيفة، وأصحابه أنهم أصحاب الرأي، أن مرادهم بذلك تنقيصهم، ولا نسبتهم إلى أنهم يقدمون رأيهم على سنة رسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ، ولا على قول أصحابه، لأنهم برآء من ذلك، ثم بسط ما كان عليه أبو حنيفة، وأصحابه في الفقه، من الأخذ بكتاب اللّه، ثم بسنَّة رسوله، ثم بأقوال الصحابة، ردًا على من توهم خلاف ذلك، ولا أنكر أن هناك أناسًا من الرواة الصالحين، يخصون أبا حنيفة، وأصحابه بالوقيعة من بين الفقهاء، وذلك حيث لا ينتبهون إلى العلل الفادحة في الأخبار، التي تركها أبو حنيفة، وأصحابه، فيظنون بهم أنهم تركوا الحديث إلى الرأي، وكثيرًا ما يعلو على مداركهم وجه استنباط هؤلاء، الحكم من الدليل، لدقة مداركهم، وجمود قرائح النقَلة، فيطعنون في الفقهاء أنهم تركوا الحديث إلى الرأي، فهذا النبز منهم لا يؤذي سوى أنفسهم. وأما ابن حزم فقد تبرأ من القياس جملة وتفصيلًا، فحظ أبي حنيفة، وأصحابه من شتائمه مثل حظ باقي الأئمة القائلين بالقياس. والقاضي أبو بكر بن العربي ممن قام بواجب الرد عليه في "العواصم والقواصم"، وليس لابن حزم شبْه دليل، فيما يدعيه من نفي القياس، غير المجازفة بنفي ما ثبت من الصحابة في حجة القياس، وغير الاجتراء على تصحيح روايات واهية، وردت في رد القياس، والغريب أن بعض أصحاب - المجلات - ممن لم ينشأ نشأة العلماء، اتخذ مجلته منبرًا يخطب عليه الدعوة إلى مذهب، لا يدري أصله ولا فرعه، فألَّف قبل عشر سنوات رسالة في "أصول التشريع العام" وجمع فيها آراء ابن حزم في نفي القياس، وآراء بعض مثبتيه، على طريق غير طريق الأئمة المتبوعين، وآراء أخرى لبعض الشذاذ، يبني مذهبه على ما يعده مصلحة فقط، وإن خالف صريح الكتاب والسنة، فصار بذلك جامعًا لأصول متضادة، تتفرع عليها، فروع متضادة، لا يجتمع مثلها، إلا في عقل مضطرب، وما هذا إلا من قبيل محاولة استيلاد البشر من البقر، ونحوه، فترى ابن حزم يحتج في نفي القياس بحديث "نعيم بن حماد" الذي سقط نعيم بروايته، عند جمهرة النقاد، وليس ابن حزم على علم من ذلك! وهذا مما يعرفه صغار أهل الحديث من المشارقة، وهو حديث قياس الأمور بالرأي، وفي سنده أيضًا "حريز الناصبي"، وان كان الصحافي - المتمهجد! - يجعله: جريرًا، ويزيد على حجة ابن حزم حجة أخرى، وهي حديث: سبايا الأمم في "ابن ماجه" ويرى - الصحافي - أنه حسن، مع أن في سنده "سويدًا"، وفيه يقول ابن معين: حلال الدم. وأحمد، متروك الحديث، وفيه أيضًا ابن أبي الرجال، وهو متروك، عند النسائي، ومنكر الحديث، عند البخاري، ويتصور فريقين من الفقهاء، أهل رأي، وأهل حديث، وليس لهذا أصل بالمرة، وإنما هذا خيال بعض متأخري الشذاذ، أخذًا من كلمات بعض جهلة النقَلة، بعد محنة أحمد، وأما ما وقع في كلام إبراهيم النخعي. وبعض أهل طبقته من القول: بأن أهل الرأي أعداء السنن، فبمعنى الرأي المخالف للسنة المتوارثة في المعتقد يعنون به الخوارج، والقدرية، والمشبهة، ونحوهم من أهل البدع، لا بمعنى الاجتهاد في فروع الأحكام، وحمله على خلاف ذلك تحريف للكلم عن مواضعه، فكيف! والنخعي نفسه، وابن المسيِّب نفسه من أهل القول بالرأي في الفروع، رغم انصراف المتخيلين، خلاف ذلك. ويحاول ابن حزم أن يكذب كل ما يروى عن الصحابة في القياس، لا سيما حديث عمر، مع أن الخطيب، وغيره يروون عنه بطرق كثيرة، بألفاظ متقاربة، وكذا عن باقي الصحابة، قال الخطيب، بعد أن روى حديث معاذ في اجتهاد الرأي في "الفقيه والمتفقه": وقول الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ، يدل على شهرة الحديث، وكثرة رواته، وقد عرف فضل معاذ، وزهده والظاهر من حال أصحابه، الدِّين، والثقة، والزهد، والصلاح، وقد قيل: إن عبادة بن نسى، رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد تقبلوه، واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم، اهـ. ومثله بل ما هو أوفى منه، مذكور في فصول أبي بكر الرازي، وقد سبقت كلمته في "نفاة القياس"، وليس هذا موضع بسط لذلك، فليراجع فصول أبي بكر الرازي. و"الفقيه والمتفقه" - للخطيب، من أراد معرفة طرق الروايات القاضية على مجازفات الظاهرية، وأذيالهم ولعل هذا القدر كاف هاهنا.
|